فصل: (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ): (وُجُوبُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي إِذَا فَسَدَتْ لَهَا صَلَاةُ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إِلَى الْمَأْمُومِينَ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطَعَهَا أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ لَيْسَتْ تَفْسُدُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا صَلَّى بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ وَعَلِمُوا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: صَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَالِمًا بِجَنَابَتِهِ أَوْ نَاسِيًا لَهَا، فَقَالُوا إِنْ كَانَ عَالِمًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمْ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالثَّالِثِ قَالَ مَالِكٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ صِحَّةُ انْعِقَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ خلف إمام جنب مُرْتَبِطَةٌ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَمْ لَيْسَتْ مُرْتَبِطَةً؟
فَمَنْ لَمْ يَرَهَا مُرْتَبِطَةً قَالَ: صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، وَمَنْ رَآهَا مُرْتَبِطَةً قَالَ: صَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّهْوِ وَالْعَمْدِ قَصَدَ إِلَى ظَاهِرِ الْأَثَرِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَبَّرَ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ امْكُثُوا، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَعَلَى جِسْمِهِ أَثَرُ الْمَاءِ. فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا أَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مُرْتَبِطَةً لَلَزِمَ أَنْ يَبْدَءُوا بِالصَّلَاةِ مَرَّةً ثَانِيَةً.

.الْبَابُ الثَّالِثُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ:

وَالْكَلَامُ الْمُحِيطُ بِقَوَاعِدِ هَذَا الْبَابِ مُنْحَصِرٌ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ.
الثَّانِي: فِي شُرُوطِ الْجُمُعَةِ.
الثَّالِثُ: فِي أَرْكَانِ الْجُمُعَةِ.
الرَّابِعُ: فِي أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ:

أَمَّا وُجُوبُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِكَوْنِهَا بَدَلًا مِنْ وَاجِبٍ وَهُوَ الظُّهْرُ، وَلِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: تَشْبِيهُهَا بِصَلَاةِ الْعِيدِ لِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا» وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ فَعَلَى مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْمُتَقَدِّمَةُ وَوُجِدَ فِيهَا زَائِدًا عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ اثْنَانِ بِاتِّفَاقٍ وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا. أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا، فَالذُّكُورَةُ، وَالصِّحَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلَا عَلَى مَرِيضٍ بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنْ إِنْ حَضَرُوا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا فَهُمَا الْمُسَافِرُ، وَالْعَبْدُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْجُمُعَةُ، وَدَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْجُمُعَةُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمِ اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّةِ الْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ. أَوِ امْرَأَةٌ. أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ» وَفِي أُخْرَى «إِلَّا خَمْسَةٌ» وَفِيه: «أَوْ مُسَافِرٌ» وَالْحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ الْجُمُعَةِ:

وَأَمَّا شُرُوطُ الْجُمُعَةِ: فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِعَيْنِهَا (أَعْنِي الثَّمَانِيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ) مَا عَدَا الْوَقْتَ وَالْأَذَانَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهَا الْمُخْتَصَّةِ بِهَا. أَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ الظُّهْرِ بِعَيْنِهِ (أَعْنِي وَقْتَ الزَّوَالِ، وَأَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مَفْهُومِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْجِيلِ الْجُمُعَةِ مِثْلَ مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنَّا نَتَغَدَّى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نُقِيلُ إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. وَمِثْلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ، وَيَنْصَرِفُونَ، وَمَا لِلْجُدْرَانِ أَظْلَالُ، فَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ الصَّلَاةَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَجَازَ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهَا إِلَّا التَّبْكِيرَ فَقَطْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ لِئَلَّا تَتَعَارَضَ الْأُصُولُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ» وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بَدَلًا مِنَ الظُّهْرِ وَجَبَ أَنَّ يَكُونَ وَقْتُهَا وَقْتَ الظُّهْرِ، فَوَجَبَ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ أَنْ تُحْمَلَ تِلْكَ عَلَى التَّبْكِيرِ، إِذْ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَأَمَّا الْأَذَانُ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ هُوَ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَقَطْ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ؟
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُؤَذِّنُ اثْنَانِ فَقَطْ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ إِنَّمَا يُؤَذِّنُ ثَلَاثَةٌ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ، وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ:لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ:كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ أَذَانًا وَاحِدًا حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ وَكَثُرَ النَّاسُ فَزَادَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِيَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلْجُمُعَةِ. وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ كَانُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً. فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى ظَاهِرِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالُوا: يُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُؤَذِّنَانِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَاحِدٌ فَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ عُثْمَانَ، وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ أَنَّ النِّدَاءَ الثَّانِيَ هُوَ الْإِقَامَةُ. وَأَخَذَ آخَرُونَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَحَادِيثُ ابْنِ حَبِيبٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ضَعِيفَةٌ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ الْمُخْتَصَّةُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْجَمَاعَةِ التي تنعقد بها الجمعة، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَاحِدٌ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ الطَّبَرِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ دُونَ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ أَرْبَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ قَوْمٌ ثَلَاثِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَدَدًا، وَلَكِنْ رَأَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَجُوزُ بِالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَحَدَّهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَقَرَّى بِهِمْ قَرْيَةٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ هَلْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ أَوِ اثْنَانِ، وَهَلِ الْإِمَامُ دَاخِلٌ فِيهِمْ أَمْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهِمْ؟
وَهَلِ الْجَمْعُ الْمُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ وَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعُدُّ الْإِمَامَ فِي الْجَمْعِ الْمُشْتَرَطِ فِي ذَلِكَ قَالَ: تَقُومُ الْجُمُعَةُ بِاثْنَيْنِ الْإِمَامِ وَوَاحِدٍ ثَانٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرَى أَنْ يُعَدَّ الْإِمَامُ فِي الْجَمْعِ قَالَ: تَقُومُ بِاثْنَيْنِ سِوَى الْإِمَامِ، وَمَنْ كَانَ أَيْضًا عِنْدَهُ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعُدُّ الْإِمَامَ فِي جُمْلَتِهِمْ قَالَ بِثَلَاثَةٍ سِوَى الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعُدُّ الْإِمَامَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَافَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَلَمْ يَعُدَّ الْإِمَامَ فِي جُمْلَتِهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ رَاعَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فِي الْأَكْثَرِ وَالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ اسْمُ الْجَمْعِ قَالَ: لَا تَنْعَقِدُ بِالِاثْنَيْنِ وَلَا بِالْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الْجُمُعَةِ الِاسْتِيطَانَ عِنْدَهُ حَدَّ هَذَا الْجَمْعَ بِالْقَدْرِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا عَلَى حِدَةٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ الْأَرْبَعِينَ، فَمَصِيرًا إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَانَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صُلِّيَتْ بِالنَّاسِ، فَهَذَا هُوَ أَحَدُ شُرُوطِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (أَعْنِي شُرُوطَ الْوُجُوبِ، وَشُرُوطَ الصِّحَّةِ) فَإِنَّ مِنَ الشُّرُوطِ مَا هِيَ شُرُوطُ وُجُوبٍ فَقَطْ، وَمِنْهَا مَا يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا (أَعْنِي أَنَّهَا شُرُوطُ وُجُوبٍ وَشُرُوطُ صِحَّةٍ).
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِيطَانُ، فَإِنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لِإِيجَابِهِمُ الْجُمُعَةَ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمِصْرَ، وَالسُّلْطَانَ مَعَ هَذَا، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْعَدَدَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُتَطَرِّقُ إِلَى الْأَحْوَالِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَ فِعْلِهِ إِيَّاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا أَوْ وُجُوبِهَا أَمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؟
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ وَمِصْرٍ وَمَسْجِدٍ جَامِعٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِصَلَاتِهِ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَهَا شَرْطًا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ اشْتَرَطَهَا، وَمَنْ رَأَى بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْبَعْضَ دُونَ غَيْرِهِ كَاشْتِرَاطِ مَالِكٍ الْمَسْجِدَ وَتَرْكِهِ اشْتِرَاطَ الْمِصْرِ وَالسُّلْطَانِ، وَمِنْ هَذَا الْوَضْعِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِثْلَ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ تُقَامُ جُمُعَتَانِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا تُقَامُ؟
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا، هُوَ كَوْنُ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمِصْرَ وَلَا السُّلْطَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِأَحْوَالِ الصَّلَاةِ وَرَأَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطًا لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مُنَاسَبَةً، حَتَّى لَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ هَلْ مِنْ شَرْطِ الْمَسْجِدِ السَّقْفُ أَمْ لَا؟
وَهَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمُعَةُ رَاتِبَةً فِيهِ أَمْ لَا؟
وَهَذَا كُلُّهُ لَعَلَّهُ تَعَمُّقٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ شُرُوطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَمَا جَازَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا أَنْ يَتْرُكَ بَيَانَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}، وَاللَّهُ الْمُرْشِدُ لِلصَّوَابِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْأَرْكَانِ:

اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا خُطْبَةٌ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ هِيَ قَوَاعِدُ هَذَا الْبَابِ.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي الْخُطْبَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا أَمْ لَا؟

:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ وَرُكْنٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ إِلَّا ابْنَ الْمَاجِشُونِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الْأَصْلُ الْمُتَقَدِّمُ مِنِ احْتِمَالِ كُلِّ مَا اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ شُرُوطِهَا أَوْ لَا يَكُونَ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْخُطْبَةَ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا تَوَهَّمَ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نَقَصَتَا مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَالَ: إِنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ سَائِرِ الْخُطَبِ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ خِلَافٌ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَمْ لَا؟
لِكَوْنِهَا رَاتِبَةً مِنْ سَائِرِ الْخُطَبِ، وَقَدِ احْتَجَّ قَوْمٌ لِوُجُوبِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَقَالُوا هُوَ الْخُطْبَةُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [مِقْدَارُ الْخُطْبَةِ]:

وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ مِنْهَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ اسْمُ خُطْبَةٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُبْتَدَأِ بِحَمْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ خُطْبَتَانِ اثْنَتَانِ يَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَائِمًا يَفْصِلُ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يَحْمَدُ اللَّهَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِهَا وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِي وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَيَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْأُولَى، وَيَدْعُو فِي الْآخِرَةِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ هَلْ يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ أَوْ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُجْزِئَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمُجْزِئَ مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ اشْتَرَطَ فِيهَا أُصُولَ الْأَقْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ مِنْ خُطَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعْنِي الْأَقْوَالَ الرَّاتِبَةَ الْغَيْرَ مُبْتَذَلَةٍ). وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: أَنَّ الْخُطَبَ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ، فِيهَا أَقْوَالٌ رَاتِبَةٌ وَغَيْرُ رَاتِبَةٍ، فَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَقْوَالَ الْغَيْرَ رَاتِبَةٍ وَغَلَّبَ حُكْمَهَا قَالَ: يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ: (أَعْنِي اسْمَ خُطْبَةٍ عِنْدَ الْعَرَبِ). وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَقْوَالَ الرَّاتِبَةَ، وَغَلَّبَ حُكْمَهَا قَالَ: لَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ مَالِكٍ الْجُلُوسُ، وَهُوَ شَرْطٌ كَمَا قُلْنَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنِ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ اسْتِرَاحَةً لِلْخَطِيبِ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عِبَادَةً جَعَلَهُ شَرْطًا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [الْإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ]:

اخْتَلَفُوا فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأَنَّهُ حُكْمٌ لَازِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْخُطْبَةِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمِيعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، فَبَعْضُهُمْ أَجَازَ التَّشْمِيتَ وَرَدَّ السَّلَامِ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُجِزْ رَدَّ السَّلَامِ وَلَا التَّشْمِيتَ، وَبَعْضٌ فَرَّقَ بَيْنَ السَّلَامِ، وَالتَّشْمِيتِ فَقَالُوا يَرُدُّ السَّلَامَ وَلَا يُشَمِّتُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي مُقَابِلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ جَائِزٌ إِلَّا فِي حِينِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَا يَسْمَعَهَا، فَإِنْ سَمِعَهَا أَنْصَتَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ جَازَ لَهُ أَنْ يُسَبِّحَ أَوْ يَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَكَلَّمَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَغَا فَصَلَاتُهُ ظُهْرٌ أَرْبَعٌ وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِوُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ فَلَا أَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً إِلَّا أَنْ يَكُونُوا يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ عَارَضَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أَيْ أَنَّ مَا عَدَا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ يَجِبُ لَهُ الْإِنْصَاتُ، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَصِلْهُمْ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي رَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، فَالسَّبَبُ فِيهِ تَعَارُضُ عُمُومِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنًى مِنْ صَاحِبِهِ، فَمَنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِالصَّمْتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْأَمْرَ بِالسَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ أَجَازَهُمَا، وَمَنِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِرَدِّ السَّلَامِ وَالتَّشْمِيتِ الْأَمْرَ بِالصَّمْتِ فِي حِينِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، وَمَنْ فَرَّقَ فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى رَدَّ السَّلَامِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّكَلُّمِ فِي الْخُطْبَةِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ التَّشْمِيتَ وَقْتَ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ وَاحِدٌ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ لِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ قُوَّةِ الْعُمُومِ فِي أَحَدِهَا وَضَعْفِهِ فِي الْآخَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّمْتِ هُوَ عَامٌّ فِي الْكَلَامِ خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ، وَالْأَمْرَ بِرَدِّ السَّلَامِ وَالتَّشْمِيتِ هُوَ عَامٌّ فِي الْوَقْتِ خَاصٌّ فِي الْكَلَامِ، فَمَنِ اسْتَثْنَى الزَّمَانَ الْخَاصَّ مِنَ الْكَلَامِ الْعَامِّ لَمْ يُجِزْ رَدَّ السَّلَامِ وَلَا التَّشْمِيتَ فِي وَقْتِ الْخُطْبَةِ، وَمَنِ اسْتَثْنَى الْكَلَامَ الْخَاصَّ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْكَلَامِ الْعَامِّ أَجَازَ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُصَارَ لِاسْتِثْنَاءِ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ بِأَحَدِ الْخُصُوصَيْنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَإِنْ عَسُرَ ذَلِكَ فَبِالنَّظَرِ فِي تَرْجِيحِ الْعُمُومَاتِ، وَالْخُصُوصَاتِ، وَتَرْجِيحِ تَأْكِيدِ الْأَوَامِرِ بِهَا وَالْقَوْلُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ يَطُولُ، وَلَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ بِإِيجَازٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْأَوَامِرُ قُوَّتُهَا وَاحِدَةٌ وَالْعُمُومَاتُ وَالْخُصُوصَاتُ قُوَّتُهَا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَيٍّ يُسْتَثْنَى مِنْ أَيٍّ وَقَعَ التَّمَانُعُ ضَرُورَةً، وَهَذَا يَقِلُّ وَجُودُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي الْعُمُومَاتِ، وَالْخُصُوصَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ النِّسَبِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْخُصُوصَيْنِ وَالْعُمُومَيْنِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ: عُمُومَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ، وَخُصُوصَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ، فَهَذَا لَا يُصَارُ لِاسْتِثْنَاءِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَالثَّانِي: مُقَابِلُ هَذَا، وَهُوَ خُصُوصٌ فِي نِهَايَةِ الْقُوَّةِ وَعُمُومٌ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ وَلَا بُدَّ أَعْنِي: أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْعُمُومِ الْخُصُوصُ.
الثَّالِثُ: خُصُوصَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَحَدُ الْعُمُومَيْنِ أَضْعَفُ مِنَ الثَّانِي، فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّصَ فِيهِ الْعُمُومُ الضَّعِيفُ.
الرَّابِعُ: عُمُومَانِ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَحَدُ الْخُصُوصَيْنِ أَقْوَى مِنَ الثَّانِي، فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْخُصُوصِ الْقَوِيِّ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا تَسَاوَتِ الْأَوَامِرُ فِيهَا فِي مَفْهُومِ التَّأْكِيدِ، فَإِنِ اخْتَلَفَتْ حَدَثَتْ مِنْ ذَلِكَ تَرَاكِيبُ مُخْتَلِفَةٌ، وَوَجَبَتِ الْمُقَايَسَةُ أَيْضًا بَيْنَ قُوَّةِ الْأَلْفَاظِ وَقُوَّةِ الْأَوَامِرِ، وَلِعُسْرِ انْضِبَاطِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قِيلَ إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ أَقَلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَأْثُومٍ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ لِلدَّاخِلِ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ]:

اخْتَلَفُوا فِيمَنْ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ: هَلْ يَرْكَعُ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرْكَعُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِعُمُومِ الْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» يُوجِبُ أَنْ يَرْكَعَ الدَّاخِلُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ إِلَى الْخَطِيبِ يُوجِبُ دَلِيلُهُ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشْغَلُ عَنِ الْإِنْصَاتِ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً، وَيُؤَيِّدُ عُمُومَ هَذَا الْأَثَرِ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَأَكْثَرُ رِوَايَاتِه: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَمَرَ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ أَنْ يَرْكَعَ، وَلَمْ يَقُلْ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ» الْحَدِيثَ. فَيَتَطَرَّقُ إِلَى هَذَا الْخِلَافُ فِي هَلْ تُقْبَلُ زِيَادَةُ الرَّاوِي الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الشَّيْخِ الْأَوَّلِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَمْ لَا؟
فَإِنْ صَحَّتِ الزِّيَادَةُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا، فَإِنَّهَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَالنَّصُّ لَا يَجِبُ أَنْ يُعَارَضَ بِالْقِيَاسِ، لَكِنْ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي رَاعَاهُ مَالِكٌ فِي هَذَا هُوَ الْعَمَلَ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [الْقِرَاءَةُ الْمَسْنُونَةُ فِي الْجُمُعَةِ]:

أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قِرَاءَةَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى لِمَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِإِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ» وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَثَرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ: «كَانَ يَقْرَأُ بِهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ قَرَأَ عِنْدَهُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى كَانَ حَسَنًا، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَقِفْ فِيهَا شَيْئًا. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ حَالِ الْفِعْلِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا سُورَةٌ رَاتِبَةٌ كَالْحَالِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَدَلِيلُ الْفِعْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا سُورَةٌ رَاتِبَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» قَالَ: فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ، وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سُورَةٌ رَاتِبَةٌ وَأَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَا دَائِمًا.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ:

وَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: فِي حُكْمِ طُهْرِ الْجُمُعَةِ.
الثَّانِيَةُ: عَلَى مَنْ تَجِبُ مِمَّنْ خَارِجَ الْمِصْرِ.
الثَّالِثَةُ: فِي وَقْتِ الرَّوَاحِ الْمُرَغَّبِ فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ.
الرَّابِعَةُ: فِي جَوَازِ الْبَيْعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [غُسْلُ الْجُمُعَةِ]:

اخْتَلَفُوا فِي طُهْرِ الْجُمُعَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ وَلَا خِلَافَ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ وَذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «طُهْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ كَطُهْرِ الْجَنَابَةِ» وَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ فَيَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ، فَقِيلَ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ؟
»
وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ، وَالثَّانِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَمُسْلِمٌ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْغُسْلِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَوْضِعِ النَّظَافَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً، وَقَدْ رُوِيَ «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» وَهُوَ نَصٌّ فِي سُقُوطِ فَرْضِيَّتِهِ إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [وُجُوبُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ]:

وَأَمَّا وُجُوبُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ خَارِجَ الْمِصْرِ، وَقَوْمٌ قَالُوا: بَلْ تَجِبُ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ إِلَيْهَا وَهُوَ شَاذٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ إِلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ مِنْ حَيْثُ يَسْمَعُ النِّدَاءَ فِي الْأَغْلَبِ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَوْضِعِ النِّدَاءِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَبَتَتْ فِي شُرُوطِ الْوُجُوبِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُ الْآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِنَ الْعَوَالِي فِي زَمَانِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» وَرُوِيَ «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ» وَهُوَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [التَّبْكِيرُ إِلَى الْجُمُعَةِ]:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّاعَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي فَضْلِ الرَّوَاحِ يوم الجمعة، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً»، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ السَّاعَاتِ هِيَ سَاعَاتُ النَّهَارِ فَنَدَبُوا إِلَى الرَّوَاحِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا أَجْزَاءُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ أَجْزَاءُ سَاعَةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِوُجُوبِ السَّعْيِ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ يَدْخُلُهُ الْفَضِيلَةُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [حُكْمُ الْبَيْعِ وَقْتَ الْجُمُعَةِ]:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقْتَ النِّدَاءِ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُفْسَخُ الْبَيْعُ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ النِّدَاءِ، وَقَوْمًا قَالُوا لَا يُفْسَخُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي أَصْلُهُ مُبَاحٌ إِذَا تَقَيَّدَ النَّهْيُ بِصِفَةٍ يَعُودُ بِفَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَمْ لَا؟

.[آدَابُ الْجُمُعَةِ]:

وَآدَابُ الْجُمُعَةِ ثَلَاثٌ: الطِّيبُ، وَالسِّوَاكُ، وَاللِّبَاسُ الْحَسَنُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِذَلِكَ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ:

وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ فَصْلَانِ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْقَصْرِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْجَمْعِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْقَصْرِ:

وَالسَّفَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقَصْرِ بِاتِّفَاقٍ، وَفِي الْجَمْعِ بِاخْتِلَافٍ. أَمَّا الْقَصْرُ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ إِلَّا قَوْلًا شَاذًّا، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا قَصَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: فِي حُكْمِ الْقَصْرِ.
وَالثَّانِي: فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْقَصْرُ.
وَالثَّالِثُ: فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَصْرُ.
وَالرَّابِعُ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْمُسَافِرُ بِالتَّقْصِيرِ.
وَالْخَامِسُ: فِي مِقْدَارِ الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ فِيهِ إِذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ.

.[الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ]: [حُكْمُ الْقَصْرِ]:

فَأَمَّا حُكْمُ الْقَصْرِ للمسافر، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ فَرْضُ الْمُسَافِرِ الْمُتَعَيَّنُ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ وَالْإِتْمَامَ كِلَاهُمَا فَرْضٌ مُخَيَّرٌ لَهُ كَالْخِيَارِ فِي وَاجِبِ الْكَفَّارَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْكُوفِيُّونَ بِأَسْرِهِمْ (أَعْنِي أَنَّهُ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ) وَبِالثَّانِي قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبِالثَّالِثِ (أَعْنِي أَنَّهُ سُنَّةٌ) قَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَبِالرَّابِعِ (أَعْنِي أَنَّهُ رُخْصَةٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ لِصِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ، وَمُعَارَضَةُ دَلِيلِ الْفِعْلِ أَيْضًا لِلْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَلِصِيغَةِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ إِنَّمَا هُوَ الرُّخْصَةُ لِمَوْضِعِ الْمَشَقَّةِ كَمَا رُخِّصَ لَهُ فِي الْفِطْرِ، وَفِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يُرِيدُ فِي قَصْرِهِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَمَفْهُومُ هَذَا الرُّخْصَةُ. وَحَدِيثُ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، لَا أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَلَا أَنَّهُ سُنَّةٌ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي يُعَارِضُ بِصِيغَتِهِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ، وَمَفْهُومَ هَذِهِ الْآثَارِ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ بِاتِّفَاقٍ قَالَتْ «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ» وَأَمَّا دَلِيلُ الْفِعْلِ الَّذِي يُعَارِضُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ وَمَفْهُومَ الْأَثَرِ الْمَنْقُولِ فَإِنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ قَطُّ فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمَا هَذَا شَأْنُهُ. فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: (أَعْنِي: إِمَّا وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً) وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا مُعَيَّنًا، لَكِنَّ كَوْنَهُ فَرْضًا مُعَيَّنًا يُعَارِضُهُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ، وَكَوْنَهُ رُخْصَةً يُعَارِضُهُ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا أَوْ سُنَّةً، وَكَانَ هَذَا نَوْعًا مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ، وَقَدِ اعْتَلُّوا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْمَشْهُورِ عَنْهَا مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تُتِمُّ، وَرَوَى عَطَاءٌ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ وَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَيُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَيُعَجِّلُ الْعِشَاءَ. وَمِمَّا يُعَارِضُهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَنَسٍ، وَأَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: اصْطَحَبْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُتِمُّ وَبَعْضُهُمْ يَقْصُرُ وَبَعْضُهُمْ يَصُومُ، وَبَعْضُهُمْ يُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ، فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ.

.[الْمَوْضِعُ الثَّانِي]: [الْمَسَافَةُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْقَصْرُ]:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، (وَهِيَ الْمَسَافَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْقَصْرُ)، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْصَرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْكُوفِيُّونَ: أَقَلُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ سَارَ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْقَصْرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ مِنْ ذَلِكَ لِلَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ تَأْثِيرِ السَّفَرِ فِي الْقَصْرِ أَنَّهُ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ مِثْلُ تَأْثِيرِهِ فِي الصَّوْمِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجِبُ الْقَصْرُ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يُرَاعِي فِي ذَلِكَ إِلَّا اللَّفْظَ فَقَطْ، فَقَالُوا: قَدْ قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» فَكُلُّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْصُرُ فِي نَحْوِ السَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا» وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى خَامِسٍ كَمَا قُلْنَا وَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْخَائِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَصَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ خَائِفًا.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْمَشَقَّةَ فَسَبَبُهُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَرْبَعَةِ بُرُدٍ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمَا.